الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)} قوله عز وجل: {وقال الملك ائتوني به} يعني يوسف عليه السلام. {فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك} يعني الملك. {فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} وإنما توقف عن الخروج مع طول حبسه ليظهر للملك عذره قبل حضوره فلا يراه مذنباً ولا خائناً. فروى أبو الزناد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يرحم الله يوسف إنه كان ذا أناةٍ لو كنت أنا المحبوس ثم أُرسل لخرجت سريعاً ». وفي سؤاله عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز ثلاثة أوجه: أحدها: أن في سؤاله عنها ظنَّةً ربما صار بها متهماً. والثاني: صيانة لها لأنها زوج الملك فلم يتبذلها بالذكر. الثالث: أنه أرادهن دونها لأنهن الشاهدات له عليها. {إن ربي بكيدهن عليم} فيه وجهان: أحدهما: معناه إن الله بكيدهن عليم. الثاني: أن سيدي الذي هو العزيز بكيدهن عليم. قوله عز وجل: {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} فهذا سؤال الملك قد تضمن تنزيه يوسف لما تخيله من صدقه لطفاً من الله تعالى به حتى لا تسرع واحدة منهن إلى التكذب عليه. وفي قوله: {راودتن} وإن كانت المراودة من إحداهن وجهان: أحدهما: أن المراودة كانت من امرأة العزيز وحدها فجمعهن في الخطاب وإن توجه إليها دونهن احتشاماً لها. الثاني: أن المراودة كانت من كل واحدة منهن. {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوءٍ} فشهدن له بالبراءة من السوء على علمهن لأنها شهادة على نفي، ولو كانت شهادتهن على إثبات لشهدن قطعاً، وهكذا حكم الله تعالى في الشهادات أن تكون على العلم في النفي، وعلى القطع في الإثبات. {قالت امرأة العزيز الآنَ حصحص الحق} معناه الآن تبين الحق ووضح، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. وأصله مأخوذ من قولهم حَصّ شعره إذا استأصل قطعه فظهرت مواضعه ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. فمعنى حصحص الحق أي انقطع عن الباطل بظهوره وبيانه. وفيه زيادة تضعيف دل عليها الاشتقاق مثل قوله: (كبوا، وكبكبوا) قاله الزجاج. وقال الشاعر: ألا مبلغ عني خداشاً فإنه *** كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم {أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين} وهذا القول منها وإن لم تسأل عنه إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف ونزاهته لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه، فجمع الله تعالى ليوسف في إظهار صدقه الشهادة والإقرار حتى لا يخامر نفساً ظن ولا يخالجها شك. قوله عز وجل: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قول امرأة العزيز عطفاً على ما تقدم، ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، يعني الآن في غيبه بالكذب عليه وإضافة السوء إليه لأن الله لا يهدي كيد الخائنين، حكاه ابن عيسى. الثاني: أنه قول يوسف بعد أن علم بظهور صدقه، وذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب عنه في زوجته، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي. {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} معناه وأن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} قوله عز وجل: {وما أبرئ نفسي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قول العزيز أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف. {إنَّ النفس لأمارة بالسوء} يحتمل وجهين: أحدهما: الأمارة بسوء الظن. الثاني: بالاتهام عند الارتياب. {إلا ما رحم ربي} يحتمل وجهين: أحدهما: إلاَّ ما رحم ربي إن كفاه سوء الظن. الثاني: أن يثنيه حتى لا يعمل. فهذا تأويل من زعم أنه قول العزيز. الوجه الثاني: أنه قول امرأة العزيز وما أبرئ نفسي إن كنت راودت يوسف عن نفسه لأن النفس باعثة على السوء إذا غلبت الشهوة عليها. {إلا ما رحم ربي} يحتمل وجهين: أحدهما: إلا ما رحم ربي من نزع شهوته منه. الثاني: إلا ما رحم ربي في قهره لشهوة نفسه، فهذا تأويل من زعم أنه من قول امرأة العزيز. الوجه الثاني: أنه من قول يوسف، واختلف قائلو هذا في سببه على أربعة أقاويل: أحدها: أن يوسف لما قال {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قالت امرأة العزيز: ولا حين حللت السراويل؟ فقال: وما أبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء، قاله السدي. الثاني: أن يوسف لما قال ذلك غمزه جبريل عليه السلام فقال: ولا حين هممت؟ فقال {وما أُبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء} قاله ابن عباس. الثالث: أن الملك الذي مع يوسف قال له: اذكر ما هممت به، فقال: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء} قاله قتادة. الرابع: أن يوسف لما قال {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال {وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} قاله الحسن. ويحتمل قوله {لأمارة بالسوء} وجهين: أحدهما: يعني أنها مائلة إلى الهوى بالأمر بالسوء. الثاني: أنها تستثقل من عزائم الأمور ما إن لم يصادف حزماً أفضت إلى السوء. قوله عز وجل: {وقال الملك ائتوني به اسْتخلصه لنفسي} وهذا قول الملك الأكبر لما علم أمانة يوسف اختاره ليستخلصه لنفسه في خاص خدمته. {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} لأنه استدل بكلامه على عقله، وبعصمته على أمانته فقال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وهذه منزلة العاقل العفيف. وفي قوله {مكين} وجهان: أحدهما: وجيه، قاله مقاتل. الثاني: متمكن في المنزلة الرفيعة. وفي قوله {أمين} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بمعنى آمن لا تخاف العواقب، قاله ابن شجرة. الثاني: أنه بمعنى مأمون ثقة، قاله ابن عيسى. الثالث: حافظ، قاله مقاتل. قوله عز وجل: {قال اجعلني على خزائن الأرض} أي على خزائن أرضك، وفيها قولان: أحدهما: هو قول بعض المتعمقة أن الخزائن ها هنا الرجال، لأن الأفعال والأقوال مخزونة فيهم فصاروا خزائن لها. الثاني: وهو قول أصحاب الظاهر أنها خزائن الأموال، وفيها قولان: أحدهما: أنه سأله جميع الخزائن، قاله ابن زيد. الثاني: أنه سأله خزائن الطعام، قاله شيبة بن نعامة الضبي. وفي هذا دليل على جواز أن يخطب الإنسان عملاً يكون له أهلاً وهو بحقوقه وشروطه قائم. فيما حكى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: نزعني عمر بن الخطاب عن عمل البحرين ثم دعاني إليها فأبيت، فقال: لم؟ وقد سأل يوسف العمل. فإن كان المولي ظالماً فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما: جوازها إن عمل بالحق فيما تقلده، لأن يوسف عليه السلام ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني: لا يجوز ذلك له لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم وتزكيتهم بتنفيذ أعمالهم. وأجاب من ذهب إلى هذا القول عن ولايته من قبل فرعون بجوابين: أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحاً، وإنما الطاغي فرعون موسى. الثاني: أنه نظر له في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه. والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات فيجوز توليته من جهة الظالمين لأن النص على متسحقيه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التنفيذ. والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الإجتهاد في مصرفه كأموال الفيء فلا يجوز توليته من جهة الظالم لأنه يتصرف بغير حقٍ ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد فيه محلول، فإن كان النظر تننفيذاً لحكم بين متراضيين أو توسطاً بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز. {إني حفيظ عليم} فيه أربعة تأويلات: أحدها: حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني، قاله ابن زيد. الثاني: حفيظ بالكتاب، عليم بالحساب، حكاه ابن سراقة، وأنه أول من كتب في القراطيس. الثالث: حفيظ بالحساب، عليم بالألسن، قاله الأشجع عن سفيان. الرابع: حفيظ لما وليتني، قاله قتادة، عليم بسني المجاعة، قاله شيبة الضبي. وفي هذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل، وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات ولكن مخصوص فيما اقترن بوصلة أو تعلق بظاهر من مكسب وممنوع منه فيما سواه لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو تنزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله، فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله ولما يرجوه من الظفر بأهله.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} قوله عز وجل: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} قال ابن جرير الطبري: استخلصه الملك الأكبر الوليد بن الريان على عمل إظفير وعزله. قال مجاهد: وأسلم على يده. قال ابن عباس: ملك بعد سنة ونصف. فروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن يوسف قال: إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ذلك ». ثم مات إظفير فزوّجه الملك بامرأة إظفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء وولدت له ولدين أفرائيم ومنشا ابني يوسف. ومن زعم أنها زليخا قال لم يتزوجها يوسف وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بالمعصية، وجعل العبيد بالطاعة ملوكاً، فضمها إليه فكانت في عياله حتى ماتت عنده ولم يتزوجها. {يتبوَّأ منها حيث يشاء} فيه وجهان: أحدهما: يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء، قاله سعيد بن جبير. الثاني: يصنع في الدنيا ما يشاء لتفويض الأمر إليه، قاله عبد الرحمن بن زيد. {نصيب برحمتنا من نشاء} يعني في الدنيا بالرحمة والنعمة. {ولا نضيع أجر المحسنين} يعني في الآخرة بالجزاء. ومنهم من حملها على الدنيا، ومنهم من حملها على الآخرة، والأصح ما قدمناه. واختلف فيما أوتيه من هذا الحال على قولين: أحدهما: ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه. الثاني: أنه أنعم بذلك عليه تفضلاً منه، وثوابه باقٍ على حاله في الآخرة. قوله عز وجل {ولأجر الآخرة خيرٌ للذين آمنوا وكانوا يتقون} فيه وجهان: أحدهما: ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا من أجر الدنيا، لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا منقطع. الثاني: ولأجر الآخرة خير ليوسف من التشاغل بملك الدنيا ونعيمها لما فيه من التبعة.
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)} قوله عز وجل: {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه} الآية. قال ابن إسحاق والسدي: وإنما جاءُوا ليمتاروا من مصر في سني القحط التي ذكرها يوسف في تفسير الرؤيا، ودخلوا على يوسف لأنه كان هو الذي يتولى بيع الطعام لعزته. {فعرفهم} فيه وجهان: أحدهما: أنه عرفهم حين دخلوا عليه من غير تعريف، قاله ابن عباس. الثاني: ما عرفهم حتى تعرفوا إليه فعرفهم، قاله الحسن. وقيل بل عرفهم بلسانهم العبراني حين تكلموا به. قال ابن عباس: إنما سميت عبرانية لأن إبراهيم عليه السلام عبر بهم فلسطين فنزل من وراء نهر الأردن فسمّوا العبرانية. {وهم له منكرون} لأنه فارقوه صغيراً فكبر، وفقيراً فاستغنى، وباعوه عبداً فصار ملكاً، فلذلك أنكروه، ولم يتعرف إليهم ليعرفوه. قوله عز وجل: {ولمّا جهزهم بجهازهم} وذلك أنه كال لهم الطعام، قال ابن إسحاق: وحمل لكل رجل منهم بعيراً بعدَّتهم. {قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم} قال قتادة: يعني بنيامين وكان أخا يوسف لأبيه وأمه. قال السدي: أدخلهم الدار وقال: قد استربت بكم تنكر عليهم فأخبروني من أنتم فإني أخاف أن تكونوا عيوناً، فذكروا حال أبيهم وحالهم وحال يوسف وحال أخيه وتخلفه مع أبيه، فقال: إن كنتم صادقين فائتوني بهذا الأخ الذي لكم من أبيكم، وأظهر لهم أنه يريد أن يستبرئ به أحوالهم. وقيل: بل وصفوا له أنه أحَبُّ إلى أبيهم منهم، فأظهر لهم محبة رؤيته. {ألا تروْن أني أوفي الكيلَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أرخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل. الثاني: أنه كال لهم بمكيال واف. {وأنا خير المنزلين} فيه وجهان: أحدهما: يعني خير المضيفين، قاله مجاهد. الثاني: وهو محتمل، خير من نزلتم عليه من المأمونين. فهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام، وعلى التأويل الثاني مأخوذ من المنزل وهو الدار. قوله عز وجل: {فإن لم تأتوني به فلا كيْل لكم عندي} يعني فيما بعد لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال. {ولا تقربون} أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب. ولم يُرد أن يبعدوا منه ولا يعودوا إليه لأنه على العود حثهم. قال السدي: وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا، فارتهن شمعون عنده. قال الكلبي: إنما اختار شمعون منهم لأنه يوم الجُبّ كان أجملهم قولاً وأحسنهم رأياً. قوله عز وجل: {قالوا سَنُرَاوِدُ عنه أباه} والمراودة الاجتهاد في الطلب، مأخوذ من الإرادة. {وَإِنَّا لَفَاعِلُون} فيه وجهان: أحدهما: وإنا لفاعلون مراودة أبيه وطلبه منه. الثاني: وإنا لفاعلون للعود إليه بأخيهم، قاله ابن إسحاق. فإن قيل: كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه؟ قيل عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب ليُعظم له الثواب فاتّبع أمره فيه. الثاني: يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف. الثالث: لتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه. والرابع: ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته لميله إليه. قوله عز وجل: {وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم} قرأ حمزة والكسائي وحفص {لفتيانه} وفيهم قولان: أحدهما: أنهم غلمانه، قاله قتادة. الثاني: أنهم الذين كالوا لهم الطعام، قاله السدي. وفي بضاعتهم قولان: أحدهما: أنها وَرِقهم التي ابتاعوا الطعام بها. الثاني: أنها كانت ثمانية جُرُب فيها سويق المقل، قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: نبه الله تعالى برد بضاعتهم إليهم على أن أعمال العباد تعود إليهم فيما يثابون إليه من الطاعات ويعاقبون عليه من المعاصي. {لعلهم يعرفونها} أي ليعرفوها. {وإذا انقلبوا إلى أهلهم} يعني رجعوا إلى أهلهم، ومنه قوله تعالى {فانقلبوا بنعمة من الله} [آل عمران: 174]. {لعلهم يرجعون} أي ليرجعوا. فإن قيل: فلم فعل ذلك يوسف؟ قيل: يحتمل أوجهاً خمسة: أحدها: ترغيباً لهم ليرجعوا، على ما صرّح به. الثاني: أنه علم منهم لا يستحلّون إمساكها، وأنهم يرجعون لتعريفها. الثالث: ليعلموا أنه لم يكن طلبه لعودهم طمعاً في أموالهم. الرابع: أنه خشي أن لا يكون عند أبيه غيرها للقحط الذي نزل به. الخامس: أنه تحرج أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن قوتهم مع شدة حاجتهم.
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)} قوله عز وجل: {فلمّا رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكيل} واختلفوا في نزلهم الذي رجعوا إليه إلى أبيهم على قولين: أحدهما: بالعربات من أرض فلسطين. الثاني: بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من حمس، وكان صاحب بادية له شاءٌ وإبل. {قالوا يا أبانا منع منا الكيل} أي سيمنع منا الكيل إن عدنا بغير أخينا لأن ملك مصر ألزمنا به وطلبه منا إما ليراه أو ليعرف صدقنا منه. {فأرسل معنا أخانا نكتَل} أي إن أرسلته معنا أمكننا أن نعود إليه ونكتال منه. {وإنا له لحافظون} ترغيباً له في إرساله معهم. فلم يثق بذلك منهم لما كان منهم في يوسف. {قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} لأنهم ضمنوا له حفظ يوسف فأضاعوه، فلم يثق بهم فيما ضمنوه. {فالله خير حافظاً} قرأ حمزة والكسائي وحفص {حافظاً} يعني منكم لأخيكم. {وهو أرحم الراحمين} يحتمل وجهين: أحدهما: أرحم الراحمين في حفظ ما استودع. والثاني: أرحم الراحمين فيما يرى من حزني.
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)} قوله عز وجل: {ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدَّتْ إليهم} أي وجدوا التي كانت بضاعتهم وهو ما دفعوه في ثمن الطعام الذي امتاروه. {قالوا يا أبانا ما نبغي} فيه وجهان: أحدهما: أنه على وجه الاستفهام بمعنى ما نبغي بعد هذا الذي قد عاملنا به، قاله قتادة. الثاني: معناه ما نبغي بالكذب فيما أخبرناك به عن الملك، حكاه ابن عيسى. {هذه بضاعتنا ردت إلينا} احتمل أن يكون قولهم ذلك له تعريفاً واحتمل أن يكون ترغيباً، وهو أظهر الاحتمالين. {ونمير أهلنا} أي نأتيهم بالميرة، وهي الطعام المقتات، ومنه قول الشاعر: بعثتك مائراً فمكثت حولاً *** متى يأتي غياثك من تغيث. {ونمير أهلنا} هذا ترغيب محض ليعقوب. {ونحفظ أخانا} وهذا استنزال. {ونزداد كيل بعير} وهو ترغيب وفيه وجهان: أحدهما: كيل البعير نحمل عليه أخانا. والثاني: كيل بعير هو نصيب أخينا لأن يوسف قسّط الطعام بين الناس فلا يعطى الواحد أكثر من حمل بعير. {ذلك كَيْلٌ يسير} فيه وجهان: أحدهما: أن الذي جئناك به كيل يسير لا ينفعنا. والثاني: أن ما نريده يسير على من يكيل لنا، قاله الحسن. فيكون على الوجه الأول استعطافاً، وعلى الثاني تسهيلاً. وفي هذا القول منهم وفاءٌ، ليوسف فيما بذلوه من مراودة في اجتذاب أخيهم لأنهم قد راودوه من سائر جهات المراودة ترغيباً واستنزالاً واستعطافاً وتسهيلاً. قوله تعالى: {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله} في هذا الموثق ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إشهادهم الله على أنفسهم. الثاني: أنه حلفهم بالله، قاله السدي. الثالث: أنه كفيل يتكفل بهم {لتأتنني به إلاَّ أن يحاط بكم} فيه وجهان: أحدهما: يعني إلا أن يهلك جميعكم، قاله مجاهد. الثاني: إلا أن تُغلَبوا على أمركم، قاله قتادة.
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)} قوله عز وجل: {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد...} يعني لا تدخلوا مصر من باب واحد، وفيه وجهان: أحدها: يعني من باب واحد من أبوابها. {وادخلوا من أبواب متفرقة}، قاله الجمهور. الثاني: من طريق واحد من طرقها {وادخلوا من أبواب متفرقة} أي طرق، قاله السدي. وفيما خاف عليهم أن يدخلوا من باب واحد قولان: أحدهما: أنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي صور وجمال، قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أنه خاف عليهم الملك أن يرى عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسداً أو حذراً، قاله بعض المتأخرين. {وما أغني عنكم من الله من شيءٍ} أي من أي شيء أحذره عليكم فأشار عليهم في الأول، وفوض إلى الله في الآخر. قوله عز وجل: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيءٍ} أي لا يرد حذر المخلوق قضاءَ الخالق. {إلاَّ حاجة في نفس يعقوب قضاها} وهو حذر المشفق وسكون نفس بالوصية أن يتفرقوا خشية العين. {وإنه لذو علم لما علمناه} فيه ثلاثة أوجه. أحدها: إنه لعامل بما علم، قاله قتادة. الثاني: لمتيقن بوعدنا، وهو معنى قول الضحاك. الثالث: إنه لحافظ لوصيتنا، وهو معنى قول الكلبي.
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)} قوله عز وجل: {ولما دخلوا على يوسف أوى إليه أخاه} قال قتادة: ضمّهُ إليه وأنزله معه. {قال إني أنا أخوك} فيه وجهان: أحدهما: أنه أخبره أنه يوسف أخوه، قاله ابن إسحاق. الثاني: أنه قال له: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، قاله وهب. {فلا تبتئس بما كانوا يعملون} فيه وجهان: أحدهما: فلا تأسف، قاله ابن بحر. الثاني: فلا تحزن بما كانوا يعملون. وفيه وجهان: أحدهما: بما فعلوه في الماضي بك وبأخيك. الثاني: باستبدادهم دونك بمال أبيك.
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} قوله عز وجل: {فلما جهزهم بجهازهم} وهو كيل الطعام لهم بعد إكرامهم وإعطائه بعيراً لأخيهم مثل ما أعطاهم. {جعل السقاية في رحل أخيه} والسقاية والصواع واحد. قال ابن عباس. وكل شيء يشرب فيه فهو صواع، قال الشاعر: نشرب الخمر بالصواع جهاراً *** وترى المتك بيننا مستعارا قال قتادة: وكان إناء المتك الذي يشرب فيه. واختلف في جنسه، فقال عكرمة كان من فضة، وقال عبد الرحمن بن زيد: كان من ذهب، وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم. وقال السدي: هو المكوك العادي الذي يلتقي طرفاه. {ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون} أي نادى مناد فسمى النداء أذاناً لأنه إعلام كالأذان. وفي {العير} وجهان: أحدهما: أنها الرفقة. الثاني: أنها الإبل المرحولة المركوبة، قاله أبو عبيدة. فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه لسرقهم وهم برآء، وهذه معصية؟ قيل عن هذه أربعة أجوبة: أحدها: أنها معصية فعلها الكيال ولم يأمر بها يوسف. الثاني: أن المنادي الذي كال حين فقد السقاية ظن أنهم سرقوها ولم يعلم بما فعله يوسف، فلم يكن عاصياً. الثالث: أن النداء كان بأمر يوسف، وعنى بذلك سرقتهم ليوسف من أبيه، وذلك صدق. الرابع: أنها كانت خطيئة من قبل يوسف فعاقبه الله عليها بأن قال القوم {إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل} يعنون يوسف. وذهب بعض من يقول بغوامض المعاني إلى أن معنى قوله {إنكم لسارقون} أي لعاقون لأبيكم في أمر أخيكم حيث أخذتموه منه وخنتموه فيه. قوله عز وجل: {قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون} لأنهم استنكروا ما قذفوا به مع ثقتهم بأنفسهم فاستفهموا استفهام المبهوت. {قالوا نفقد صواع الملك} والصواع واحد وحكى غالب الليثي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ صوغ الملك بالغين معجمة، مأخوذ من الصياغة لأنه مصوغ من فضة أو ذهب وقيل من نحاس. {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} وهذه جعالة بذلت للواجد. وفي حمل البعير وجهان: أحدهما: حمل جمل، وهو قول الجمهور. الثاني: حمل حمار، وهو لغة، قاله مجاهد. واختلف في هذا البذل على قولين: أحدهما: أن المنادي بذله عن نفسه لأنه قال {وأنا به زعيم} أي كفيل ضامن. فإن قيل: فكيف ضمن حمل بعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أن حمل البعير قد كان عندهم معلوماً كالسوق فصح ضمانه. الثاني: أنها جعالة وقد أجاز بعض الفقهاء فيها في الجهالة، ما لم يُجزْه في غيرها كما أجاز فيها ضمان ما لم يلزم، وإن منع منه في غيرها.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)} قوله عز وجل: {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض} أي لنسرق، لأن السرقة من الفساد في الأرض. وإنما قالوا ذلك لهم لأنهم قد كانوا عرفوهم بالصلاح والعفاف. وقيل لأنهم ردّوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، ومن يؤد الأمانة في غائب لا يقدم على سرقة مال حاضر. {وما كنا سارقين} يحتمل وجهين: أحدهما: ما كنا سارقين من غيركم فنسرق منكم. والثاني: ما كنا سارقين لأمانتكم فنسرق غير أمانتكم. وهذا أشبه لأنهم أضافوا بذلك إلى عملهم. قوله عز وجل: {قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين} أي ما عقوبة من سرق منكم إن كنتم كاذبين في أنكم لم تسرقوا منا. {قالوا جزاؤه مَن وُجِدَ في رحلِه فهو جزاؤه} أي جزاء من سرق إن يُسْترق. {كذلك نِجزي الظالمين} أي كذلك نفعل بالظالمين إذا سرقوا وكان هذا من دين يعقوب. {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاءِ أخيه} لتزول الريبة من قلوبهم لو بدئ بوعاء أخيه. {ثم استخرجها من وعاء أخيه} قيل عنى السقاية فلذلك أنّث، وقيل عنى الصاع، وهو يذكر ويؤنث في قول الزجاج. {كذلك كدنا ليوسُف} فيه وجهان: أحدهما: صنعنا ليوسف قاله الضحاك. والثاني: دبّرنا ليوسف، قاله ابن عيسى. {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في سلطان الملك، قاله ابن عباس. والثاني: في قضاء الملك، قاله قتادة. والثالث: في عادة الملك، قال ابن عيسى: ولم يكن في دين الملك استرقاق من سرق. قال الضحاك: وإنما كان يضاعف عليه الغرم. {إلا أن يشاء الله} فيه وجهان: أحدهما: إلا أن يشاء الله أن يُسْتَرق من سرق. والثاني: إلا أن يشاء الله أن يجعل ليوسف عذراً فيما فعل.
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)} قوله عز وجل: {قالوا إن يسرق فقد سَرَق أخ له من قبلُ} يعنون يوسف. وفي هذا القول منهم وجهان: أحدهما: أنه عقوبة ليوسف أجراها الله تعالى على ألسنتهم، قاله عكرمة. والثاني: ليتبرأوا بذلك من فعله لأنه ليس من أمهم وأنه إن سرق فقد جذبه عِرق أخيه السارق لأن في الاشتراك في الأنساب تشاكلاً في الأخلاق. وفي السرقة التي نسبوا يوسف إليها خمسة أقاويل: أحدها: أنه سرق صنماً كان لجده إلى أمه من فضة وذهب، وكسره وألقاه في الطريق فعيّروه بذلك، قاله سعيد بن جبير وقتادة. الثاني: كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق فخبأه، فعيّروه بذلك، قاله عطية العوفي. الثالث: أنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين، حكاه ابن عيسى. الرابع: أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق وإليها صارت منطقة إسحاق لأنها كانت في الكبير من ولده، وكانت تكفل يوسف، فلما أراد يعقوب أخذه منها جعلت المنطقة، واتهمته فأخذتها منه، فصارت في حكمهم أحق به، فكان ذلك منها لشدة ميلها وحبها له، قاله مجاهد. الخامس: أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه، قاله الحسن. {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} فيه وجهان: أحدهما: أنه أسر في نفسه قولهم {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} قاله ابن شجرة وعلي بن عيسى. الثاني: أسر في نفسه {أنتُمْ شَرٌّ مكاناً...} الآية، قاله ابن عباس وابن إسحاق. وفي قوله: {قال أنتم شر مكاناً} وجهان: أحدهما: أنتم شر منزلة عند الله ممن نسبتموه إلى هذه السرقة. الثاني: أنتم شر صنعاً لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم. وفي قوله تعالى: {والله أعلم بما تصفون} تأويلان: أحدهما: بما تقولون، قاله مجاهد. الثاني: بما تكذبون، قاله قتادة. وحكى بعض المفسرين أنهم لما دخلوا عليه دعا بالصواع فنقره ثم أدناه من أذنه ثم قال: إن صواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً وأنكم انطلقتم بأخٍ لكم فبِعْتموه، فلما سمعها بنيامين قام وسجد ليوسف وقال أيها الملك سلْ صواعك هذا عن أخي أحيّ هو أم هالك؟ فنقره، ثم قال: هو حي وسوف تراه. قال: فاصنع بي ما شئت، فإنه إن علم بي سينقذني. قال: فدخل يوسف فبكى ثم توضأ وخرج، فقال بنيامين: افقر صواعك ليخبرك بالذي سرقه فجعله في رحلي، فنقره، فقال: صواعي هذا غضبان وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت.
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} قوله عز وجل: {... يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً} لكن قالوا ذلك ترقيقاً واستعطافاً وفي قولهم {كبيراً} وجهان: أحدهما: كبير السن. الثاني: كبير القدر لأن كبر السن معروف من حال الشيخ. {فخذ أحدنا مكانه} أي عبْداً بدله. {إنا نراك من المحسنين} فيه وجهان: أحدهما: نراك من المحسنين في هذا إن فعلت، قاله ابن إسحاق. الثاني: نراك من المحسنين فيما كنت تفعله بنا من إكرامنا وتوفية كيلنا وبضاعتنا. ويحتمل ثالثاً: إنا نراك من العادلين، لأن العادل محسن. فأجابهم يوسف عن هذا {قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجَدْنا متاعنا عنده إنَّا إذًا لظالمون} إن أخذنا بريئاً بسقيم، وفيه وجه ثان: إنا إذاً لظالمون عندكم إذا حكمنا عليكم بغير حكم أبيكم أن من سرق استُرِقّ.
{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)} قوله عز وجل: {فلما استيأسوا منه} أي يئسوا من رد أخيهم عليهم. الثاني: استيقنوا أنه لا يرد عليهم، قاله أبو عبيدة وأنشد قول الشاعر: أقول لها بالشعب إذ يأسرونني *** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم {خلصوا نجيّاً} أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يختلط بهم غيرهم. {قال كبيرهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى كبيرهم في العقل والعلم وهو شمعون الذي كان قد ارتهن يوسف عنده حين رجع إخوته إلى أبيهم، قاله مجاهد. الثاني: أنه عنى كبيرهم في السن وهو روبيل ابن خالة يوسف، قاله قتادة. الثالث: أنه عنى كبيرهم في الرأي والتمييز وهو يهوذا، قاله مجاهد. {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله} يعني عند إيفاد ابنه هذا معكم. {ومن قبل ما فرَّطتم في يوسف} أي ضيعتموه. {فلن أبرح الأرض} يعني أرض مصر. {حتى يأذن لي أبي} يعني بالرجوع. {أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} فيه قولان: أحدهما: يعني أو يقضي الله لي بالخروج منها، وهو قول الجمهور. الثاني: أو يحكم الله لي بالسيف والمحاربة لأنهم هموا بذلك، قاله أبو صالح. قوله عز وجل: {ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق} وقرأ ابن عباس {سُرِق} بضم السين وكسر الراء وتشديدها. {وما شهدنا إلا بما علمنا} فيها وجهان: أحدهما: وما شهدنا عندك بأن ابنك سرق إلا بما علمنا من وجود السرقة في رحله، قاله ابن إسحاق. الثاني: وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يُسترقّ إلا بما علمنا من دينك، قاله ابن زيد. {وما كنا للغيب حافظين} فيه وجهان: أحدهما: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، قاله قتادة. الثاني: ما كنا نعلم أن ابنك يسترقّ، وهو قول مجاهد. قوله عز وجل: {واسأل القرية التي كنا فيها} وهي مصر، والمعنى واسأل أهل القرية فحذف ذكر الأهل إيجازاً، لأن الحال تشهد به. {والعير التي أقبلنا فيها} وفي {العير} وجهان: أحدهما: أنها القافلة، وقافلة الإبل تسمى عيراً على التشبيه. الثاني: الحمير، قاله مجاهد، والمعنى أهل العير. وقيل فيه وجه ثالث: أنهم أرادوا من أبيهم يعقوب أن يسأل القرية وإن كانت جماداً، أو نفس العير وإن كانت حيواناً بهيماً لأنه نبي، والأنبياء قد سخر لهم الجماد والحيوان بما يحدث فيهم من المعرفة إعجازاً لأنبيائه، فأحالوه على سؤال القرية والعير ليكون أوضح برهاناً. {وإنا لصادقون} أي يستشهدون بصدْقنا أن ابنك سرق.
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)} قوله عز وجل: {قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً} فيه وجهان: أحدهما: بل سهلت. الثاني: بل زينت لكم أنفسكم أمراً في قولكم إن ابني سرق وهو لا يسرق، وإنما ذاك لأمر يريده الله تعالى. {فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} يعني يوسف وأخيه المأخوذ في السرقة وأخيه المتخلف معه فهم ثلاثة. {إنه هو العليم الحكيم} يعني العليم بأمركم، الحكيم في قضائه بما ذكرتم. قوله عز وجل: {وتولَّى عنهم وقال يا أسفَى على يوسف} فيه وجهان: أحدهما: معناه واجزعاه قاله مجاهد، ومنه قول كثير: فيا أسفا للقلب كيف انصرافُه *** وللنفس لما سليت فتسلّتِ الثاني: معناه يا جزعاه، قاله ابن عباس. قال حسان بن ثابت يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيا أسفا ما وارت الأرض واستوت *** عليه وما تحت السلام المنضد وفي هذا القول وجهان: أحدهما: أنه أراد به الشكوى إلى الله تعالى ولم يرد به الشكوى منه رغباً إلى الله تعالى في كشف بلائه. الثاني: أنه أراد به الدعاء، وفيه قولان: أحدهما: مضمر وتقديره يا رب ارحم أسفي على يوسف. {وابيضت عَيْنَاه من الحزن} فيه قولان: أحدهما: أنه ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه. الثاني: أنه ذهب بصره، قاله مجاهد. {فهو كظيم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الكمد، قاله الضحاك. الثاني: أنه الذي لا يتكلم، قاله ابن زيد. الثالث: أنه المقهور، قاله ابن عباس، قال الشاعر: فإن أك كاظماً لمصاب شاسٍ *** فإني اليوم منطلق لساني والرابع: أنه المخفي لحزنه، قاله مجاهد وقتادة، مأخوذ من كظم الغيظ وهو إخفاؤه، قال الشاعر: فحضضت قومي واحتسبت قتالهم *** والقوم من خوفِ المنايا كظم قوله عز وجل: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف} قال ابن عباس والحسن وقتادة معناه لا تزال تذكر يوسف، قال أوس بن حجر: فما فتئت خيل تثوبُ وتدّعي *** ويلحق منها لاحق وتقطّعُ أي فما زالت. وقال مجاهد: تفتأ بمعنى تفتر. {حتى تكون حرضاً} فيه ثلاثة تأويلات. أحدها: يعني هرماً، قاله الحسن. والثاني: دنفاً من المرض، وهو ما دون الموت، قاله ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه الفاسد العقل، قاله محمد بن إسحاق. وأصل الحرض فساد الجسم والعقل من مرض أو عشق، قال العرجي. إني امرؤلجّ بي حُبٌّ فأحرضني *** حتى بَليتُ وحتى شفّني السقم {أو تكون من الهالكين} يعني ميتاً من الميتين، قاله الجميع. فإن قيل: فكيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكاً متمكناً بمصر، وأبوه بحرّان من أرض الجزيرة؟ وهلاّ عجّل استدعاءه ولم يتعلل بشيء بعد شيء؟ قيل يحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن يكون فعل ذلك عن أمر الله تعالى، ابتلاء له لمصلحة علمها فيه لأنه نبيّ مأمور. الثاني: أنه بلي بالسجن، فأحب بعد فراقه أن يبلو نفسه بالصبر. الثالث: أن في مفاجأة السرور خطراً وأحب أن يروض نفسه بالتدريج. الرابع: لئلا يتصور الملك الأكبر فاقة أهله بتعجيل استدعائهم حين ملك. قوله عز وجل: {قال إنما أشكو بَثِّي وحزني إلى الله} في بثي وجهان: أحدهما: همّي، قاله ابن عباس. الثاني: حاجتي، حكاه ابن جرير. والبث تفريق الهم بإظهار ما في النفس. وإنما شكا ما في نفسه فجعله بثاً وهو مبثوث. {وأعلم من الله ما لا تعلمون} فيه تأويلان: أحدهما: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني ساجد له، قاله ابن عباس. والثاني: أنه أحست نفسه حين أخبروه فدعا الملك وقال: لعله يوسف، وقال لا يكون في الأرض صدّيق إلا نبي، قاله السدّي. وسبب قول يعقوب {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} ما حكي أن رجلاً دخل عليه فقال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني؟ فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وكان بعد ذلك يقول {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}.
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)} قوله عز وجل: {... اذهبوا فتحسَّسُوا مِن يوسُفَ وأخيه} أي استعملوا وتعرّفوا، ومنه قول عديّ بن زيد: فإنْ حَييتَ فلا أحسسك في بلدي *** وإن مرضت فلا تحسِسْك عُوّادِي وأصله طلب الشيء بالحس. {ولا تيأسوا من روح الله} فيه تأويلان: أحدهما: من فرج الله، قاله محمد بن إسحاق. والثاني: من رحمة الله، قاله قتادة. وهو مأخوذ من الريح التي بالنفع. وإنما قال يعقوب ذلك لأنه تنّبه على يوسف برد البضاعة واحتباس أخيه وإظهار الكرامة ولما حكي أن يعقوب سأل ملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا. قوله عز وجل: {فلمّا دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مَسّنا وأهلنا الضر} وهذا مِن ألطف ترفيق وأبلغ استعطاف. وفي قصدهم بذلك قولان: أحدهما: بأن يرد أخاهم عليهم، قاله ابن جرير. والثاني: توفية كيلهم والمحاباة لهم، قاله علي بن عيسى. {وجئنا ببضاعةٍ مزجاةٍ} وأصل الإزجاء السَوْق بالدفع، وفيه قول الشاعر عدي بن الرقاع. تزجي أغَنّ كأن إبرَة روقِهِ *** قلمٌ أصاب من الدواة مدادها وفي بضاعتهم هذه خمسة أقاويل: أحدها: أنها كانت دراهم، قاله ابن عباس. الثاني: متاع الأعراب، صوف وسمن، قاله عبدالله بن الحارث. الثالث: الحبة الخضراء وصنوبر، قاله أبو صالح. الرابع: سويق المقل. قاله الضحاك. الخامس: خلق الحبْل والغرارة، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وفي المزجاة ثلاثة تأويلات: أحدها: أنها الرديئة، قاله ابن عباس. والثاني: الكاسدة، قاله الضحاك. الثالث: القليلة، قاله مجاهد. قال ابن إسحاق: وهي التي لا تبلغ قدر الحاجة ومنه قول الراعي: ومرسل برسول غير متّهم *** وحاجة غير مزجاة من الحاج وقال الكلبي: هي كلمة من لغة العجم، وقال الهيثمي: من لغة القبط. {فأوف لنا الكيل} فيه قولان: أحدهما: الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم، وهو قول ابن جريج. الثاني: مثل كيلهم الأول لأن بضاعتهم الثانية أقل، قاله السدي. {وتصدق علينا} فيه أربعة أقاويل: أحدهما: معناه تفضل علينا بما بين الجياد والرديئة، قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن، وذلك لأن الصدقة تحرم على جميع الأنبياء. الثاني: تصدق علينا بالزيادة على حقنا، قاله سفيان بن عيينة. قال مجاهد: ولم تحرم الصدقة إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وحده. الثالث: تصدق علينا برد أخينا إلينا، قاله ابن جريج، وكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدّق عَليّ، لأن الصدقة لمن يبتغي الثواب. الرابع: معناه تجوّز عنا، قاله ابن شجرة وابن زيد واستشهد بقول الشاعر: تصدّق علينا يا ابن عفان واحتسب *** وأمر علينا الأشعري لياليا
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} قوله عز وجل: {قال هَلْ علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} معنى قوله {هل علمتم ما فعلتم} أي قد علمتم، كقوله تعالى {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} أي قد أتى. قال ابن إسحاق: ذكر لنا أنهم لما قالوا {مسّنا وأهلنا الضر} رحمهم ورقَّ لهم، فقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ وعَدَّدَ عليهم ما صنعوا بهما. {إذ أنتم جاهلون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني جهل الصغر. الثاني: جهل المعاصي. الثالث: الجهل بعواقب أفعالهم. فحينئذ عرفوه. {قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي} وحكى الضحاك في قراءة عبدالله: وهذا أخي وبيني وبينه قربى {قد مَنّ الله علينا} يعني بالسلامة ثم بالكرامة، ويحتمل بالإجتماع بعد طول الفرقة. {إنه مَنْ يتّق ويصبرْ} فيه قولان: أحدهما: يتقي الزنى ويصبر على العزوبة، قاله إبراهيم. الثاني: يتقي الله تعالى ويصبر على بلواه. وهو محتمل. {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فيه قولان: أحدهما: في الدنيا. الثاني: في الآخرة. قوله عز وجل: {قالوا تالله آثرك اللهُ علينا} مأخوذ من الإيثار، وهو إرادة تفضيل أحد النفسين على الآخر، قال الشاعر: والله أسماك سُمًّا مباركاً *** آثرك الله به إيثارَكاً {وإن كنا لخاطئين} أي فيما صنعوا بيوسف، وفيه قولان: أحدهما: آثمين. الثاني: مخطئين. والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن الخاطئ آثم. فإن قيل: فقد كانوا عند فعلهم ذلك به صغاراً ترفع عنهم الخطايا. قيل لما كبروا واستداموا إخفاء ما صنعوا صاروا حينئذ خاطئين. قوله عز وجل: {قال لا تثريب عليكم} فيه قولان أربعة تأويلات: أحدها: لا تغيير عليكم، وهو قول سفيان ابن عيينة. الثاني: لا تأنيب فيما صنعتم، قاله ابن إسحاق. الثالث: لا إباء عليكم في قولكم، قاله مجاهد. الرابع: لا عقاب عليكم وقال الشاعر: فعفوت عنهم عفو غير مثربٍ *** وتركتهم لعقاب يومٍ سرمد {اليوم يغفر الله لكم} يحتمل وجهين: أحدهما: لتوبتهم بالاعتراف والندم. الثاني: لإحلاله لهم بالعفو عنهم. {وهو أرحم الراحمين} يحتمل وجهين: أحدهما: في صنعه بي حين جعلني ملكاً. الثاني: في عفوه عنكم عما تقدم من ذنبكم.
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} قوله عز وجل: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} وفيه وجهان: أحدهما: مستبصراً بأمري لأنه إذا شم ريح القميص عرفني. الثاني: بصيراً من العمى فذاك من أحد الآيات الثلاث في قميص يوسف بعد الدم الكذب وقدّه من دُبُره. وفيه وجه آخر لأنه قميص إبراهيم أنزل عليه من الجنة لما أُلقي في النار، فصار لإسحاق ثم ليعقوب، ثم ليوسف فخلص به من الجب وحازه حتى ألقاه أخوه على وجه أبيه فارتد بصيراً، ولم يعلم بما سبق من سلامة إبراهيم من النار ويوسف من الجب أن يعقوب يرجع به بصيراً. قال الحسن: لولا أن الله تعالى أعلم يوسف بذلك لم يعلم أنه يرجع إليه بصره... وكان الذي حمل قميصه يهوذا بن يعقوب، قال ليوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته فأنا الآن أحمل قميصك لأسرّه وليعود إليه بصره فحمله، حكاه السدي. {وأتوني بأهلكم أجمعين} لتتخذوا مِصرَ داراً. قال مسروق فكانوا ثلاثة وتسعين بين رجل وامرأة. قوله عز وجل: {ولمّا فصلت العير} أي خرجت من مصر منطلقة إلى الشام. {قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف} فيها قولان: أحدهما: أنها أمارات شاهدة وعلامات قوي ظنه بها، فكانت هي الريح التي وجدها ليوسف، مأخوذ من قولهم تنسمت رائحة كذا وكذا إذا قرب منك ما ظننت أنه سيكون. والقول الثاني: وهو قول الجمهور أنه شم ريح يوسف التي عرفها. قال جعفر بن محمد رضي الله عنه: وهي ريح الصبا. ثم اعتذر فقال: {لولا أن تفندّون} فيه أربعة أقاويل: أحدها: لولا أن تسفهون، قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه قول النابغة الذبياني: إلا سليمان إذ قال المليكُ له *** قم في البرية فا جددها عن الفنَد أي عن السفة. الثاني: معناه لولا أن تكذبون، قاله سعيد بن جبير والضحاك، ومنه قول الشاعر: هل في افتخار الكريم من أود *** أم هل لقول الصديق من فند أي من كذب. الثالث: لولا أن تضعّفون، قاله ابن إسحاق. والتفنيد: تضعيف الرأي، ومنه قول الشاعر: يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي *** فليس ما فات من أمري بمردود وكان قول هذا لأولاد بنيه، لغيبة بنيه عنه، فدل هذا على أن الجدَّ أبٌ. الرابع: لولا أن تلوموني، قاله ابن بحر. ومنه قول جرير: يا عاذليَّ دعا الملامة واقصِرا *** طال الهوى وأطلْتُما التفنيدا واختلفوا في المسافة التي وجد ريح قميصه منها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وجدها من مسافة عشرة أيام. قاله أبو الهذيل. الثاني: من مسيرة ثمانية أيام، قاله ابن عباس. الثالث: من مسيرة ستة أيام، قاله مجاهد. وكان يعقوب بأرض كنعان ويوسف بمصر وبينهما ثمانون فرسخاً، قاله قتادة. قوله عز وجل: {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أي في خطئك القديم، قاله ابن عباس وابن زيد. الثاني: في جنونك القديم، قاله سعيد بن جبير. قال الحسن: وهذا عقوق. الثالث: في محبتك القديمة، قاله قتادة وسفيان. الرابع: في شقائك القديم، قاله مقاتل، ومنه قول لبيد: تمنى أن تلاقي آل سلمى *** بحطمة والمنى طرف الضِّلال وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: بنوه، ولم يقصدوا بذلك ذماً فيأثموا. والثاني: بنو نبيه وكانوا صغاراً.
{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)} قوله عز وجل: {فلما أن جاء البشير} وفي قولان: أحدهما: شمعون، قاله الضحاك. الثاني: يهوذا. سمي بذلك لأنه أتاه ببشارة. {ألقاه على وجهه} يعني ألقى قميص يوسف على وجه يعقوب. {فارتدَّ بصيراً} أي رجع بصيراً، وفيه وجهان: أحدهما: بصيراً بخبر يوسف. الثاني: بصيراً من العمى. {قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إني أعلم من صحة رؤيا يوسف ما لا تعلمون. الثاني: إني أعلم من قول ملك الموت أنه لم يقبض روح يوسف ما لا تعلمون. الثالث: إني أعلم من بلوى الأنبياء بالمحن ونزول العراج ونيل الثواب ما لا تعلمون. قوله عز وجل: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا} وإنما سألوه ذلك لأمرين: أحدهما: أنهم أدخلوا عليه من آلام الحزن ما لا يسقط المأثم عنه إلا بإجلاله. الثاني: أنه نبيُّ تجاب دعوته ويعطى مسألته، فروى ابن وهب عن الليث بن سعد أن يعقوب وإخوة يوسف قاموا عشرين سنة يطلبون التوبة فيما فعل إخوة يوسف بيوسف لا يقبل ذلك منهم حتى لقي جبريل يعقوب فعلمه هذا الدعاء: يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي، ويا غوث المؤمنين أغثني، ويا عَوْن المؤمنين أعني، ويا مجيب التّوابين تُبْ عليَّ فاستجيب لهم. فإن قيل قد تقدمت المغفرة لهم بقول يوسف من قبل {لا تثريب عليكم} الآية، فلمَ سألوا أباهم أن يستغفر لهم؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: لأن لفظ يوسف عن مستقبل صار وعداً، ولم يكن عن ماض فيكون خبراً. الثاني: أن ما تقدم من يوسف كان مغفرة في حقه، ثم سألوا أباهم أن يستغفر لهم في حق نفسه. الثالث: أنهم علموا نبوة أبيهم فوثقوا بإجابته، ولم يعلموا نبوة أخيهم فلم يثقوا بإجابته. قوله عز وجل: {قال سوف أستغفر لكم ربي} وفي تأخيره الاستغفار لهم وجهان: أحدهما: أنه أخره دفعاً عن العجيل ووعداً من بعد، فلذلك قال عطاء: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم} وإلى قول يعقوب: {سوف أستغفر لكم ربي}. الثاني: أنه أخّره انتظاراً لوقت الإجابة وتوقعاً لزمان الطلب. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: عند صلاة الليل، قاله عمرو بن قيس. الثاني: إلى السحَر، قاله ابن مسعود وابن عمر. روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجار ». الثالث: إلى ليلة الجمعة قاله ابن عباس ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. وإنما سألوه عن الاستغفار لهم وإن كان المستحق في ذنوبهم التوبة منها دون الاستغفار لهم ثلاثة أمور: أحدها: للتبرك بدعائه واستغفاره. الثاني: طلباً لاستعطافه ورضاه. الثالث: لحذرهم من البلوى والامتحان في الدنيا.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)} قوله عز وجل: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه} اختلف في إجتماع يوسف مع أبويه وأهله، فحكى الكلبي والسدي أن يوسف خرج عن مصر وركب معه أهلها، وقيل خرج الملك الأكبر معه واستقبل يعقوب، قال الكلبي على يوم من مصر، وكان القصر على ضحوة من مصر، فلما دنا يعقوب متوكئاً على ابنه يهوذا يمشي، فلما نظر إلى الخيل والناس قال: يا يهوذا أهذا فرعون؟ قال: لا، هذا ابنك يوسف، فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان عني، فأجابه يوسف: {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} فيه وجهان: أحدهما: آمنين من فرعون، قاله أبو العالية. الثاني: آمنين من القحط والجدب، قاله السدي. وقال ابن جريج: كان اجتماعهم بمصر بعد دخولهم عليه فيها على ظاهر اللفظ، فعلى هذا يكون معنى قوله {ادخلوا مصر} استوطنوا مصر. وفي قوله: {إن شاء الله} وجهان: أحدهما: أن يعود إلى استيطان مصر، وتقديره استوطنوا مصر إن شاء الله. الثاني: أنه راجع إلى قول يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله آمنين إنه هو الغفور الرحيم، ويكون اللفظ مؤخراً، وهو قول ابن جريج. فحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنساناً من رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً. قوله عز وجل: {ورفع أبويه على العرش} قال مجاهد وقتادة: وفي أبويه قولان: أحدهما: أنهما أبوه وخالته راحيل، وكان أبوه قد تزوجها بعد أمه فسميت أُماً، وكانت أمه قد ماتت في نفاس أخيه بنيامين، قاله وهب والسدي. الثاني: أنهما أبوه وأمه وكانت باقيه إلى دخول مصر، قاله الحسن وابن إسحاق. {وخرّوا له سجداً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم سجدوا ليوسف تعظيماً له، قال قتادة: وكان السجود تحية من قبلكم وأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقال الحسن: بل أمرهم الله تعالى بالسجود له لتأويل الرؤيا. وقال محمد بن إسحاق: سجد له أبواه وإخوته الأحد عشر. والقول الثاني: أنهم سجدوا لله عز وجل، قاله ابن عباس، وكان يوسف في جهة القبلة فاستقبلوه بسجود، وكان سجودهم شكراً، ويكون معنى قوله {وخروا} أي سقطوا، كما قال تعالى {فخرّ عليهم السقف مِنْ فوقهم} أي سقط. والقول الثالث: أن السجود ها هنا الخضوع والتذلل، ويكون معنى قوله تعالى {خروا} أي بدروا. {وقال يا أبَتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} واختلف العلماء فيما بين رؤياه وتأويلها على خمسة أقاويل: أحدها: أنه كان بيهما ثمانون سنة، قاله الحسن وقتادة. الثاني: كان بينهما أربعون سنة، قاله سليمان. الثالث: ست وثلاثون سنة، قاله سعيد بن جبير. الرابع: اثنتان وعشرون سنة. والخامس: أنه كان بينهما ثماني عشرة سنة، قاله ابن إسحاق. فإن قيل: فإن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة فهلاّ وثق بها يعقوب وتسلى؟ ولم {قال يا بُني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} وما يضر الكيد مع سابق القضاء؟ قيل عن هذا جوابان: أحدهما: أنه رآها وهو صبي فجاز أن تخالف رؤيا الأنبياء المرسلين. الثاني: أنه حزن لطول المدة في معاناة البلوى وخاف كيد الإخوة في تعجيل الأذى. {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو} فإن قيل فلم اقتصر من ذكر ما بُلي به على شكر إخراجه من السجن دون الجب وكانت حاله في الجب أخطر؟ قيل عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كان في السجن مع الخوف من المعرة ما لم يكن في الجب فكان ما في نفسه من بلواه أعظم فلذلك خصه بالذكر والشكر. الثاني: أنه قال ذلك شكراً لله عز وجل على نقله من البلوى إلى النعماء، وهو إنما انتقل إلى الملك من السجن لا من الجب، فصار أخص بالذكر والشكر إذ صار بخروجه من السجن ملكاً، وبخروجه من الجب عبداً. الثالث: أنه لما عفا عن إخوته بقوله {لا تثريب عليكم اليوم} أعرض عن ذكر الجب لما فيه من التعريض بالتوبيخ وتأول بعض أصحاب الخواطر قوله: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن} أي من سجن السخط إلى فضاء الرضا. وفي قوله: {وجاء بكم من البدو} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا في بادية بأرض كنعان أهل مواشٍ وخيام، وهذا قول قتادة. الثاني: أنه كان قد نزل «بدا» وبنى تحت جبلها مسجداً ومنها قصد، حكاه الضحاك عن ابن عباس. قال جميل: وأنتِ التي حَبَبْتِ شغباً إلى بَدَا *** إليّ وأوطاني بلادٌ سِواهما يقال بدا يبدو إذا نزل «بدا» فلذلك قال: وجاء بكم من البدو وإن كانوا سكان المدن. الثالث: لأنهم جاءُوا في البادية وكانوا سكان مدن، ويكون بمعنى في. واختلف من قال بهذا في البلد الذي كانوا يسكنونه على ثلاثة أقاويل. أحدها: أنهم كانوا من أهل فلسطين، قاله علي بن أبي طلحة. الثاني: من ناحية حران من أرض الجزيرة، ولعله قول الحسن. الثالث: من الأولاج من ناحية الشعب، حكاه ابن إسحاق. {من بَعْدِ أن نَزَغَ الشيطانُ بيني وبين إخوتي} وفي نزغه وجهان: أحدهما: أنه إيقاع الحسد، قاله ابن عباس. الثاني: معناه حرّش وأفسد، قاله ابن قتيبة. {إن ربي لطيف لما يشاء} قال قتادة: لطيف بيوسف بإخراجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع عن يوسف نزغ الشيطان.
|